أندريه بروتون
من "أسماك ذَوَبانيّة"
20
عنَّ لشخص ما ذات يوم أن يجمعَ في كأسٍ من الطين الأبيض زغبَ الفواكه؛ وقد طلى بهذا البخار مرايا عدة وعندما عاد بعد زمن طويل، كانت المرايا قد اختفت. نهضت واحدة بعد الأخرى وخرجت مرتعشة. وبعد زمن أطول، اعترفَ شخص ما بأنه قد التقى، عند عودته من عمله، بإحدى هذه المرايا، فأقترب منها تدريجاً وأخذها إلى بيته. كان شاباً مبتدئاً جميلا جداً، ملابس عمله الوردية جعلته يشبه حوضاً مملوءاً بالماء غُسِلَ فيه جرحٌ ما. ولرأس هذا الماء ابتسامة كأن ألف طير يبتسم في شجرة ذات جذور غائصة. صعّد المرآة بسهولة في بيته وكل ما تذكّره هو أن بابين قد أصطفقا عند مروره، مقبض كل واحد منها كان يؤطرها لوح زجاجي ضيق. كان قد أبعد ذراعيه ليسند حِملَهُ الذي وضعه فيما بعد بألف حذر في زاوية الغرفة الوحيدة التي كان يسكنها في الطابق السابع، ثم خلد إلى النوم. طوال الليل، لم تغمض له عين؛ كانت المرآة تتغوّر انعكاساً سحيقاً لم يُعرف من قبل ولمدى لا يُصدق. لم يكن للمدن سوى وقت الظهور بين سُمْكيها. مدن من الحمى شقَّت عُبابَها النساء فقط من جميع الجهات، مدن مهجورة، مدن ذات عبقرية أيضاً، تعلو بناياتها تماثيل متحركة، وبنيت فيها مصاعد الحمولة على شكل البشر، مدن عواصف فقيرة، وهذه المدينة أجمل وأكثر تهرباً من الأخرى التي فيها القصور والمعامل على شكل أزهار: فذات اللون البنفسجي مثلا كانت مربطَ قوارب. عوضاً عن الحقول ثمة سماوات على الوجه الآخر من المدن، سماوات ميكانيكية، سماوات كيميائية، سماوات رياضية، حيث كانت صور البروج تتحرك، كل واحدة في محيطها، إلاّ أن الجوزاء كانت تعود أكثر من الأخرى. أستيقظ الشاب في الساعة الواحدة فزعاً إلى المرآة مقتنعاً أنّها أخذت تميل منحنيةً إلى الأمام وعلى وشك أن تقع. استقامَها بصعوبة. فإذا هواجس أخذت تساوره، حتّى قرر أن العودة إلى الفراش أمر خطر فبقي جالساً على كرسي أعرج على بعد خطوة فقط من المرآة وبمواجهتها بالضبط. شعر بتنفسِ شخصٍ غريب في الغرفة... لاشيء. ثم رأى شاباً أسفل الباب الكبير، والشاب هذا كان عارياً ولم يكن خلفه سوى منظر أسود ربما مصنوع من ورق محروق. فقط أشكال الأشياء بقيت وكان من الممكن التعرف على جوهر هذه الأشياء المسبوكة منه. في الواقع، ليس في الأمر خطورة. فبعض هذه الأشياء كانت تعود له: مجوهرات، هدايا حب، بقايا طفولته، بل حتى قنينة العطر هذه التي لا يمكن العثور على سدادتها. أما الأشياء الأخرى فكانت غريبة عليه، ومما لا شك فيه أنه لم يستطع استجلاء ما تنطوي عليه من وظيفة في المستقبل القريب. كان المبتدئ ينظر أبعد فأبعد في الرماد.خامره ارتياح فيه شيءٌ من الشعور بالذنب، من رؤية هذا الشاب المبتسم ذي الوجه الشبيه بَكرةٍ في داخلها ضُرَيسان يطيران، يقترب من يديه. أخذه من خاصرته التي هي خاصرة المرآة، أليس كذلك، وما إن غادرت الطيور، حتّى ارتقت الموسيقى طول الخط الأبيض الذي كان يتركه وراءه طيرانهم. ما الذي حدث في هذه الغرفة؟ المهم، أن المرآة منذ ذلك اليوم لم يُعثر عليها، ولم أقرّب فمي من إحدى شظاياها المحتملة الوجود، من دون أن يصيبني انفعال شديد حتى لو لن أرى في آخر الأمر ظهور الخواتم المصنوعة من زغب الطير، البجعَ على وشك الغناء.
من "أسماك ذَوَبانيّة"
20
عنَّ لشخص ما ذات يوم أن يجمعَ في كأسٍ من الطين الأبيض زغبَ الفواكه؛ وقد طلى بهذا البخار مرايا عدة وعندما عاد بعد زمن طويل، كانت المرايا قد اختفت. نهضت واحدة بعد الأخرى وخرجت مرتعشة. وبعد زمن أطول، اعترفَ شخص ما بأنه قد التقى، عند عودته من عمله، بإحدى هذه المرايا، فأقترب منها تدريجاً وأخذها إلى بيته. كان شاباً مبتدئاً جميلا جداً، ملابس عمله الوردية جعلته يشبه حوضاً مملوءاً بالماء غُسِلَ فيه جرحٌ ما. ولرأس هذا الماء ابتسامة كأن ألف طير يبتسم في شجرة ذات جذور غائصة. صعّد المرآة بسهولة في بيته وكل ما تذكّره هو أن بابين قد أصطفقا عند مروره، مقبض كل واحد منها كان يؤطرها لوح زجاجي ضيق. كان قد أبعد ذراعيه ليسند حِملَهُ الذي وضعه فيما بعد بألف حذر في زاوية الغرفة الوحيدة التي كان يسكنها في الطابق السابع، ثم خلد إلى النوم. طوال الليل، لم تغمض له عين؛ كانت المرآة تتغوّر انعكاساً سحيقاً لم يُعرف من قبل ولمدى لا يُصدق. لم يكن للمدن سوى وقت الظهور بين سُمْكيها. مدن من الحمى شقَّت عُبابَها النساء فقط من جميع الجهات، مدن مهجورة، مدن ذات عبقرية أيضاً، تعلو بناياتها تماثيل متحركة، وبنيت فيها مصاعد الحمولة على شكل البشر، مدن عواصف فقيرة، وهذه المدينة أجمل وأكثر تهرباً من الأخرى التي فيها القصور والمعامل على شكل أزهار: فذات اللون البنفسجي مثلا كانت مربطَ قوارب. عوضاً عن الحقول ثمة سماوات على الوجه الآخر من المدن، سماوات ميكانيكية، سماوات كيميائية، سماوات رياضية، حيث كانت صور البروج تتحرك، كل واحدة في محيطها، إلاّ أن الجوزاء كانت تعود أكثر من الأخرى. أستيقظ الشاب في الساعة الواحدة فزعاً إلى المرآة مقتنعاً أنّها أخذت تميل منحنيةً إلى الأمام وعلى وشك أن تقع. استقامَها بصعوبة. فإذا هواجس أخذت تساوره، حتّى قرر أن العودة إلى الفراش أمر خطر فبقي جالساً على كرسي أعرج على بعد خطوة فقط من المرآة وبمواجهتها بالضبط. شعر بتنفسِ شخصٍ غريب في الغرفة... لاشيء. ثم رأى شاباً أسفل الباب الكبير، والشاب هذا كان عارياً ولم يكن خلفه سوى منظر أسود ربما مصنوع من ورق محروق. فقط أشكال الأشياء بقيت وكان من الممكن التعرف على جوهر هذه الأشياء المسبوكة منه. في الواقع، ليس في الأمر خطورة. فبعض هذه الأشياء كانت تعود له: مجوهرات، هدايا حب، بقايا طفولته، بل حتى قنينة العطر هذه التي لا يمكن العثور على سدادتها. أما الأشياء الأخرى فكانت غريبة عليه، ومما لا شك فيه أنه لم يستطع استجلاء ما تنطوي عليه من وظيفة في المستقبل القريب. كان المبتدئ ينظر أبعد فأبعد في الرماد.خامره ارتياح فيه شيءٌ من الشعور بالذنب، من رؤية هذا الشاب المبتسم ذي الوجه الشبيه بَكرةٍ في داخلها ضُرَيسان يطيران، يقترب من يديه. أخذه من خاصرته التي هي خاصرة المرآة، أليس كذلك، وما إن غادرت الطيور، حتّى ارتقت الموسيقى طول الخط الأبيض الذي كان يتركه وراءه طيرانهم. ما الذي حدث في هذه الغرفة؟ المهم، أن المرآة منذ ذلك اليوم لم يُعثر عليها، ولم أقرّب فمي من إحدى شظاياها المحتملة الوجود، من دون أن يصيبني انفعال شديد حتى لو لن أرى في آخر الأمر ظهور الخواتم المصنوعة من زغب الطير، البجعَ على وشك الغناء.
1 comment:
بقالى بتاع ثلاث شهور عايز اكتب حاجة عن بريتون او جورج حنين او احمد راسم
في الاخر لقيتنى باستخدم مقطع من قصيدة لجويس منصور في اخر تدوينة
Post a Comment