تعاليم حُوريَّة
فَكَّرتُ يومًا بالرحيل، فحطَّ حَسُّونٌ على يدها ونام.
وكان يكفي أَن أُداعِبَ غُصْنَ دالِيَةٍ على عَجَلٍ...
لتُدْركَ أَنَّ كأسَ نبيذيَ امتلأتْ.
ويكفي أَن أنامَ مُبَكِّرًا لتَرَى مناميَ واضحًا،
فتطيلُ لَيْلَتَها لتحرسَهُ...
ويكفي أَن تجيء رسالةٌ منّي لتعرف أَنَّ عنواني تغيَّر،
فوق قارِعَةِ السجون، وأَنَّ
أَيَّامي تُحوِّمُ حَوْلَها... وحيالها
أُمِّي تَعُدُّ أَصابعي العشرينَ عن بُعْدٍ.
تُمَشِّطُني بخُصْلَةِ شعرها الذَهَبيّ.
تبحثُ في ثيابي الداخليّةِ عن نساءٍ أَجنبيَّاتٍ،
وَتَرْفُو جَوْريي المقطوعَ.
لم أَكبَرْ على يَدِها كما شئنا:
أَنا وَهِيَ، افترقنا عند مُنْحَدرِ الرُّخام... ولوَّحت سُحُبٌ لنا،
ولماعزٍ يَرِثُ المَكَانَ.
وأَنْشَأَ المنفى لنا لغتين:
دارجةً... ليفهَمَها الحمامُ ويحفظَ الذكرى،
وفُصْحى... كي أُفسِّرَ للظلال ظِلالَهَا!
ما زلتُ حيًّا في خِضَمِّكِ.
لم تَقُولي ما تقولُ الأُمُّ للوَلَدِ المريضِ.
مَرِضْتُ من قَمَرِ النحاس على خيام البَدْوِ.
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنانَ،
حَيْثُ نسيتِني ونسيتِ كيسَ الخُبْزِ [كان الخبزُ قمحيًّا].
ولم أَصرخْ لئلاَّ أُوقظَ الحُرَّاسَ.
حَطَّتْني على كَتِفَيْكِ رائحةُ الندى.
يا ظَبْيَةً فَقَدَتْ هُنَاكَ كِنَاسَها وغزالها...
لا وَقْتَ حَوْلَكِ للكلام العاطِفيِّ.
عَجَنْتِ بالحَبَقِ الظهيرةَ كُلَّها.
وَخَبَزْتِ للسُّمَّاقِ عُرْفَ الدِيك.
أَعْرِفُ ما يُخَرِّبُ قلبَكِ المَثْقُوبَ بالطاووس،
مُنْذُ طُرِدْتِ ثانيةً من الفردوس.
عالَمُنا تَغَيَّر كُلُّهُ، فتغيَّرتْ أَصواتُنا.
حتّى التحيَّةُ بيننا وَقَعَتْ كزرِّ الثَوْبِ فوق الرمل،
لم تُسْمِعْ صدًى.
قولي: صباح الخير!
قولي أيَّ شيء لي لتمنَحَني الحياةُ دَلالَها.
هي أُختُ هاجَرَ.
أُختُها من أُمِّها.
تبكي مع النايات مَوْتى لم يموتوا.
لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تَنْفَتِحُ السماءُ،
ولا ترى الصحراءَ خلف أَصابعي لترى حديقَتَها على وَجْه السراب،
فيركُض الزَّمَنُ القديمُ
بها إلى عَبَثٍ ضروريٍّ:
أَبوها طار مثلَ الشَرْكَسيِّ على حصان العُرْس.
أَمَّا أُمُّها فلقد أَعدَّتْ،
دون أن تبكي، لِزَوْجَة زَوْجِها حنَّاءَها،
وتفحَّصَتْ خلخالها...
لا نلتقي إلاَّ وداعًا عند مُفْتَرَقِ الحديث.
تقول لي مثلاً: تزوّجْ أَيَّةَ امرأة مِنَ
الغُرَباء، أَجمل من بنات الحيِّ.
لكنْ، لا تُصَدِّقْ أَيَّةَ امرأة سوايَ.
ولا تُصَدِّقْ ذكرياتِكَ دائمًا.
لا تَحْتَرِقْ لتضيء أُمَّكَ، تلك مِهْنَتُها الجميلةُ.
لا تحنَّ إلى مواعيد الندى.
كُنْ واقعيًّا كالسماء.
ولا تحنّ إلى عباءة جدِّكَ السوداءِ،
أَو رَشوَاتِ جدّتكَ الكثيرةِ،
وانطلِقْ كالمُهْرِ في الدنيا. وكُنْ مَنْ أَنت حيث تكون.
واحملْ عبءَ قلبِكَ وَحْدَهُ...
وارجع إِذا اتَّسَعَتْ بلادُكَ للبلاد وغيَّرتْ أَحوالَها...
أُمِّي تضيء نُجُومَ كَنْعَانَ الأخيرةَ،
حول مرآتي،
وتَرْمي، في قصيدتِيَ الأَخيرةِ، شَالَها! .
No comments:
Post a Comment