Tuesday, September 20, 2005

قصة حزينة عن فرح-تتمة

رغم كل محاولاتي للتهرب من إكمال هذه القصة، كنت في اعماقي اتوقع دائما لحظة أقرر فيها ان اعود لأكتب ما بقي منها، ولا اخفي عن نفسي اني كنت مترددا في إكمالها رغم الرغبة التي تملكتني في إخراج البقية الباقية من كلمات هذه القصة ولم استغرب فضول من قرأها وسألني عن بقية الاحداث، وقد حاولت كثيرا ان اتهرب من الجواب، وعلى مايبدو ان الكلمات التي تبقى حبيسة في العقل! تبقى ولا تزول إلى أن نخرجها منه، وحينها فقط نستطيع ان نشعر بالراحة لأنه لم يكن هناك مجال للهروب من كلمات لابد من قولها.

فهل حان موعد النهاية لهذه القصة القديمة، وهل تنتهي القصص بمجرد ان نخبرها للأخرين، تثبت تجربتي الخاصة، انه لا خلاص من بقايا وأثار القصص علينا، بل نحن نتاج تجارب عشناها، كل تجربة تشكل فينا جزء من شخصيتنا التي بنيت على نجاح او فشل تجاربنا السابقة، والسعادة ليست في نجاح التجربة فقط، السعادة تكمن في ان نعيش التجربة نفسها، ومن هنا نستطيع ان نميز بين تجارب مختلفة في الحياة، تجارب نعيشها بمحض ارادتنا ونكون في موقع المتحملين لنتائجها مهما كانت، ولكن من يتحمل نتيجة تجارب يعيشها المرء بطريق الصدفة او يعيشها تجربة مفروضة عليه كما فرضت عليه لحظة ولادته، وهذا مايعيدنا لقصة فرح وتجربتها،

أن تعيش في ظل عائلة مفككة عاطفياً واجتماعياً هذا شيء تعودنا عليه في مجتمعنا، فليست الروابط الزوجية هي ما يخلق الحب ولا التألف الاجتماعي، وتعودنا على زواج قادر على أن يخلق عائلة مشوهة، عائلة يكون نتيجتها فتاة في العشرين من عمرها اسمها فرح، تحمل اسم فرح ولكن لاتعرف للفرح مكان في حياتها،

فرح التي رغم سعادتي بلقائها في بيت صديقي حسام بعد غياب لفترة طويلة تلك السعادة التي شابها الكثير من الاستغراب والكثير الكثير من الاسئلة التي ملأت رأسي، وقد كان من الصعب ان اتجاوز تلك الاسئلة، فمنذ عرفتها صغيرة كان يملئ حياتها فراغ كبير، ولا اعرف كيف للفراغ ان يملئ حياة شخص ما، أليس هو فراغاً، كانت فرح، طفلة صغيرة عندما قررت امها التخلص من زواجها والارتباط بزواج اخر من رجل يعيش في الكويت ولكن صغر سن ابنتها جعلها تنتظر وقتا اطول لتنفذ مشروعها هذا، وبما انها عاشت تلك الفترة وهي مرتبطة برجل اخر، يعلم الزوج بوجوده ولكنه يعجز عن مواجهة زوجته لأنه كان يفكر في مصير الطفلة الصغيرة وكيف ستكون حياته لو تخلت امها عنها وهي صغيرة، ولهذا توصلوا إلى اتفاق على حياة تسير وكل منهما يرتدي قناع التواصل والذي لم يكن يخفي من النوايا شيئا، كانت وحدها فرح، ترتشف البؤس مع كل قبلة طبعوها على خدها وهم يتمتمون بكلماتهم الغاضبة بسبب بطئ نموها وتأخيرها لمشاريعهم، لقد حملوها ذنب الزمن البطيء، وحملوها كرههم للأنتظار، كانت مثل الكرة يتقاذفونها بينهم.
عندما التقيتها اول مرة، كانت اللعبة قد انتهت وتحولت الى نزاع على الحقوق، كل ما كان يدور حوله النزاع هو ملكية البيت، وملكية المكتب، وباقي الاملاك، وحدها فرح كانت خارج الملكية وخارج أي نزاع وبشكل ما خارج اي اهتمام، كانت الأم تحمل في جعبتها مخطط لزمن قادم بدون طفلتها، وكان الأب يعلم انه لا مهرب له من تولي رعاية طفلته.

وهذا ما صارت إليه الامور في تلك الايام، وبقيت فرح مع أبيها الغارق في أعماله، وكان لابد من ان يساعده احدهم فيها وكنت انا ذلك الشخص ولكن تعاوننا لم يستمر سوى لفترة قصيرة جدا وسار كل منا في طريقه. ولم اعرف كيف سارت الامور بعدها، حتى تكرر لقائي بها وهذا ما سمح لي بمعرفة الكثير فيما بعد، فبعد يومين من لقائنا في منزل حسام في تلك السهرة، اتصلت بي، وطلبت مني ان أزورهم وقالت ان ابوها يسره ان يلقاني مجددا بعد كل هذه السنين،

اعلم انكم تقولون انني احاول تصوير الوضع على انه مأساة وان كل ما قلته حتى الان يندرج تحت الاشياء العادية وانها ليس سببا مقنعا ليجعل حياتها حزينة ومؤلمة، وانا نفسي أقول ذلك فكل ما قلته ينطوي تحت احساسي الخاص وليس بسبب ما سارت بها الحياة معها، كل ماقلته حتى الان هو مجرد احاسيس لم أعرف صدقها إلا بعد ان طرقت الباب في مساء ذلك اليوم وانتظرت ان تفتح لي الباب، لكن خرج لي شاب صغير السن لم يبالي لوجودي ودعاني للدخول وعاد إلى الداخل، لم اعرف ما أفعل، بدأت اصطنع السعال كما هي العادة القديمة قدم هذه المدينة، علّ احدهم يخرج ويرحب بي، اين اختفى ذلك الشاب لما تركني وذهب للداخل، انتظرت لدقيقة ثم قررت الدخول، فأنا اعرف المنزل الذي لم يتغير اثاثه القديم كثيرا، لم تزل الاشياء كما لو انها محفوظة في متحف، كنت امشي خطوة واتلفت حولي، كأني اخشى شيئا ما، اردت ان أنادي احداً، ولكن فرح خرجت مسرعة من غرفتها واطلقت ذراعيها بإتجاهي، وضمتني كما تفعل من تستقبل حبيبها الذي غاب عنها دهراً، لم اكن مرتاحا بين يديها، لم اشعر بمكاني داخل تلك الضمة، حاولت التملل ولكنها لم تدع لي فرصة، امسكت بيدي وسحبتني إلى داخل الغرفة، قالت لي "ادخل نحن جالسون هنا"، أعتقدت أن كلمة "نحن" تعني ذلك الشاب الذي فتح لي الباب ولكني تفاجأت بوجود اربعة من الشبان في تلك الغرفة الصغيرة التي كان يبدو انها غرفة نومها، فهي تحوي سرير في وسطها وكان يجلس عليه اثنين من اصحابها ويتكؤن على بعضهم البعض، اما الاخران فكانا يجلسان على اريكة صغيرة يحشران نفيسهما فيها لأنه لم تعّد لأن تتسع لشخصين بحجميهما. نظرت حولي علني اجد مكاناً اجلس عليه، لكن كان عبثا ان ابحث عن ذلك المكان، وقد لاحظت حيرتي التي بدت على وجهي وجعلت حاجباي المقطبان يلتصقان حتى اصبحا قطعة واحدة،
- "اجلس هنا، افسحو المجال انت وهو.." قالت تلك الكلمات ضاحكة وهي تشير الي جانب السرير، تململت قليلاً، لكن رغبة في داخلي جعلتني انصاع لكلامها، حاولت الخروج من حالة الاستغراب تلك، فسـألتها عن ابيها، ضحكت ثانية وكانت ضحكتها اكثر علواً من المرة السابقة وقالت "سيعود بعد قليل، انت تعرف انه كثير الاشغال كعادته"،
"حسنا، سأنتظره في غرفة الاستقبال اذا،لا اريد ان اقطع عليك جلستكم!!!!.. "
قلت كلماتي هذه وخرجت من الغرفة متجهاً نحو غرفة الاستقبال، وكان منظر الكراسي الفارغة يثير الارتياح لدي في تلك اللحظة!! جلست هناك، ولحقت بي، جلست واخرجت علبة السجائر وعرضت علي سيجارة ولكني رفضت لأني لا ادخن، عادت للضحك من جديد وقالت بلهجة ساخرة "لاتدخن ولم تشرب في السهرة الماضية، ليش عيشتك، من اجل ماذا تعيش؟؟"، ابتسمت ولم ارد على سخريتها، فليس عندي رد على كل ما جري في هذا البيت من لحظة طرقت فيها الباب، كانت قد بدأت تدخن سيجارتها وانا أنظر إليها دون ان اخفي نظراتي، ويمكن ان اقول اني كنت احدق في تلك الفتاة وما يزال حاجباي مقطبان ولم تكن تبالي بنظراتي، سحبت نفساً طويلا من سيجارتها وكأنها تستجمع قواها للكلام الذي لم يكن يخرج معها بسهولة فأستبدلته بضحكة صغيرة، فأعدت السؤال عن ابيها، فضحكت من جديد
- "وهل انت هنا من اجله؟" سؤالها هذا جعل الجو في الغرفة اكثر ضبابية مما جعلة دخان سيجارتها المنتشر حولنا،
-"وما رأيك انت؟" أعدت عليها السؤال بسؤال اخر!!!
-كنت اظن انك هنا من اجلي؟
-لم افهم ما تعنين؟
-ألا تعتقد اني فتاة جميلة؟
-بالتأكيد، جمالك لا يختلف عليه اثنان!
-ألست مثيرة!
-هذا لايعنيني!!!
-ولكن هذا يعني اني مثيرة؟


كان الحديث قد وصل لحيث لم يعد بإمكاني المتابعة بهدوء، كان لا بد من ان اضع حداً لهذا النقاش الذي بدأ دون سابق إنذار، ما الذي يجري في عقل هذه الفتاة، ما الذي افعله انا هنا الان، كانت اسئلة كثيرة كالعادة تطن في رأسي، حاولت ان اعيد الامور لنصابها،
-" اسمعي الان، انا مجرد صديق وانا هنا لأني اردت رؤية والدك ولا أعرف لما تسلكين هذا السلوك معي، هل هناك اي خطأ أرتكبته حتى بدا اني افكر بما تقولين؟؟؟"
-"نعم!! أخطأت لأنك مخيب للأمال.. " قالت كلماتها الساخرة هذه وانطلقت من جديد في ضحكة عالية

لا أدري لما غرقت في رواية كل هذه التفاصيل التي لم تزل مرسومة بذاكرتي كنقش في الحجر، لم تزل في ذاكرتي ضحكتها ولم تزل سيجارتها مشتعلة وأرى الدخان المتطاير في ذاكرتي، متعبة هي هذه الذكريات، احاول ان اذكرها دون ان اتركها تحرك مشاعري، ولكن عبثية المشاعر التي تتحرك مع الذكريات لامجال للسيطرة عليها، أه، من الألم والحزن فهو يختزن في الذاكرة ويمكن له ان يعود دوماً كأنه وليد اللحظة وابن الحاضر.
فرح!! في ذلك اليوم بكت بطريقة لم أعهدها منها حتى في ايام طفولتها، كنت لا أزال اجلس في مكاني اراقبها، حين انطلقت في نوبة بكاء لم تتوقف عنها لحين خروج أصدقائها من الغرفة ليستطلعوا ما حدث فأنفجرت بوجهم صارخة " اخرجو كلكم، اخرجو من هنا" واستمرت بالصراخ "أخرجو جميعا من هنا، لا اريد رؤية أحد!!!" وكلما حاول احدهم التقرب منها، كانت تزداد حدة وصراخاً، كان خروجهم هو الشيء الوحيد الذي فعلوه في النهاية، اغلقو الباب خلفهم وخرجو، فعادت تنظر إلي متسائلة
- "وانت، لما بقيت، لما لم تخرج معهم؟؟؟"
- "لأني انتظر ابو فرح، ألم يقترب موعد عودته ألى البيت؟؟"

لم ينتهي ذلك اليوم، بسهولة، عاد ابو فرح اخيراً، وجلسنا معاً واختفت فرح في غرفتها، تحدثنا عن كل شيء من الماضي، كل شيء ما عدا فرح، لم يتكلم الاب عن ابنته ابداً، اكتفى بالأشارة لسروره عندما علم منها بلقائي مصادفة، وعبر عن امله بلقائي.

كنت في اخر الزيارة احلم ان يكون ما جرى مجرد حلم، لم احب تلك الصورة التي ظهرت فيها فرح، كنت لا أحمل لها في ذاكرتي سوى صورة الطفلة الشقية ولا أعرف بعد هذه الزيارة اي صورة يجب ان تحل محل الصورة القديمة، كنت مشوشا كثيرا، ولم اهتدي إلى جواب!!!

هل مازال لديكم المزيد من الاسئلة، أعرف ذلك ، انتظرو وسأكمل الحكاية لكم ، لكني الان لا أملك المزيد من الوقت

يتبع ........

No comments: