Tuesday, August 09, 2005

من يحسد الملك

من يحسد الملك!

كانت القاعة قد امتلأت، بالمستشارين والوزراء، حين دخل الملك عليهم، حاملا ً صولجانه الذهبي، وأخذ يتنقل بنظراته بين الوجوه التي لا يعلوها سوى الصمت الذي اعتاده منهم، لم يستطع أن يخفي غبطته التي سرعان ما عكر صفوها كلام كبير الحكماء.
- "
عفوك يا مولاي، إنك تحمل الصولجان بيدك اليسرى، ألا ترى معي أن هذا قد يُفسر على أنه ابتعاد عن تقاليد وعادات هذا البلد العريق؟"

أراد الملك أن يستدرك خطأه، وينقل الصولجان إلى اليد الأخرى، ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة. أحس بأنه سيعطي بذلك الفرصة لكبير الحكماء ليشعر بصواب رأيه، وهو ما يحاول أن يثبت عكسه منذ زمن، فاتجه نحو كرسيه قائلاً في نفس : "مال هذا الحكيم وصولجاني، لو أن أبي سمع كلامي قبل أن يموت وتخلصنا منه، أما كان ذلك أفضل الآن؟ أية سعادة كانت ستملأ القصر دون الحكمة المثقلة لهذا الرجل الهرم؟"
لم يتوقف الملك عن الكلام إلى نفسه وهو يحاول أن يجد وضعية جلوس مريحة على الكرسي الضخم :"أي كرسي هذا الذي يزداد حجمه مع الأيام، ألم يكن أفضل لو صنعوا لي كرسيا ًعلى مقاسي، لم يجب علي أن أرث كل هذه الأشياء"
كان يحاول أن يجد وضعية مريحة ليسند بها رأسه لعله ينسى ذلك الصداع الذي يلازمه منذ فترة طويلة، هذا الصداع الذي على ما يبدو قد أنساه لما دعي إلى هذا الإجتماع اليوم!
"
لعن الله الصداع، لعن الله الصداع" كان يكرر هذه العبارة عله يتذكر لم هذا الاجتماع!

أحس كبير الحكماء بحيرة الملك، فاستغل الفرصة وقدم له كمية كبيرة من الملفات، مبتسماً كمن حقق نصراً كبيراً،
- "
هاهي الملفات التي طلبتها يا مولاي، لقد جبنا طول البلاد وعرضها، وجمعنا لكم كل ما طلبتموه منا، كله ستجدونه في هذه الملفات"

نظر الملك إلى كل تلك الأوراق التي أمامه، متذكراً أنه نسي نظارته، وأحس بالخجل يتصاعد الى وجنتيه، كيف له أن يخبرهم أنه نسي نظارته، لا لن يدعهم يعرفون ذلك، بالتأكيد سوف يسخرون منه، وأحس بالصداع من جديد يتصاعد داخل رأسه، حاول الهروب بالنظر إلى وجوه مستشاريه، بحث عن كبير العلماء، لم يستطع أن يميزه بين كل تلك الوجوه المتشابهة، تذكر أن كبير العلماء ليس لديه لحية كما البقية، أثارته تلك الملاحظة وكل تلك اللحى الطويلة التي يطلقها مستشاروه، وبدا الانزعاج واضحاً على وجهه،
اقترب كبير الحكماء منه سائلاً: " أهناك ما يزعجك يا مولاي؟"
كان يريد أن يصرخ في وجهه ليخلص نفسه من كل ذلك الشعور السيء، كم تمنى أن يتخلص منه، لكنه تدارك الأمر في آخر لحظة، لقد تذكر وعده لزوجته هذا الصباح، نعم سيكون هادئاً وبشوشاً، كما وعدها، نعم تلك هي الصورة التي تحبه أن يظهر عليها.

- "
مــولاي!"، ما أجمل وقع تلك الكلمة التي أخرجته من حيرته وغضبه وأعادت له القليل من الابتسامة التي بدأ يفقدها منذ بدء هذا الاجتماع، ولكنه لم يتوقع أن يعود ويخسرها بتلك السرعة بعد أن أكمل المستشار كلامه: "هل سنناقش أي موضوع آخر اليوم أيضاً، أم ستكتفي بهذه الملفات التي أمامك؟"
تصاعد الدم إلى رأسه، لاعناً تلك الساعة التي جاء فيها إلى هذا المكان، لو يدري فقط لما دعي لهذا الاجتماع! لو كانت نظارته معه، لقرأ بعض الأوراق التي أمامه وتذكر!

- "
انظروا إلي قليلاً" هذا ما بدأ به كلامه، وهو يحاول أن يتجنب النظر إلى وجوههم مباشرة!
- "
أريدكم أن تجدوا لي علاجاً لهذا الصداع الذي أصابني ويمنعني من متابعة هذا الاجتماع وكل شيء آخر! أنا غير قادر على الاستمرار بوجود هذا الصداع!
في تلك اللحظة فقط ظهر له وجه كبير العلماء الذي بدأ بالتحدث : "مولاي، الصداع مرض معروف وعلاجه معروف، دع هذا الموضوع عليّ وأنا سأريحك منه"
- "
بهذه البساطة؟" قالها الملك مستغرباً
- "
ليست الأمور بتلك البساطة يا مولاي، ولكن العلماء قد قاموا بدراسة وتحليل كل أنواع الصداع ووضعوا لها العلاج المناسب!"
لم يفهم الملك لم أثارته كلمة كبير العلماء، لا بد أنها عادت به إلى تلك الذكريات التي عاشها في تلك البلد البعيدة، ولكنه أحس بالخجل ثانية بسبب الذكريات التي أعادته لأيام الجامعة، وكل تلك الفتيات الجميلات اللواتي كن معه في الجامعة، جميلة هي تلك البلد! كم تمنى في تلك اللحظة أن يعود في زيارة الى تلك الجامعة ليرى ما حل بأصدقائه!

كانت وحدها كلمات كبير الحكماء قد انتزعته من أحلامه الجميلة في تلك الحظة التي تمنى لو تستمر لساعات،
- "
لا، يا مــولاي! لا تصدقه يامولاي، فصداعك ليس من ذلك النوع الذي يتحدث عنه كبير العلماء، إنه صداع ناتج عن الحسد!"
- "
الحسد؟؟؟؟؟، عماذا تتحدث أيها الحكيم؟"
-
نعم يا مولاي، أنت مصاب بالحسد، إنها عيون الحاسدين! إنهم يحسدونك على هذا الكرسي الذي تجلس عليه يا مولاي!"
- "
ما هذا الذي تقوله ياكبير الحكماء، لقد أخبرني أبي أنه حارب الحسد وقضى عليه، من سنين طوال، أتريد أن تقول أن هذا الطبع السيئ قد عاد ينتشر ثانية!"
- "
نعم يا مولاي، لقد حاربته إلى جانب والدك سابقاً، ولكن لا أخفيك أن الشيطان عاد للعبث بعقول الناس وأن الحجب والرقى وكل ما فعلناه سابقاً لم يعد يجدي نفعاً أمام هذ المد الشيطاني!

- "
لا، يا مولاي" صرخ كبير العلماء الذي لم يستطع السكوت أمام هذا الكلام! " لا تصدقه يا مولاي، هذا كلام غير صحيح، لقد أثبتت الرقى والحجب وكل أساليب العرافين فشلها على مر العصور، لا تدع كبير الحكماء يقنعك بهذا الهراء"
أحس الملك بالحيرة، فهو يثق برأي والده ويعرف أنه كان يثق بكبير الحكماء، ولكن فكرة العلماء أيضاً كانت تثير فضوله!
كان الصداع الرهيب، يكاد يفجر الأوردة في رأسه، ويمنعه من التفكير، سيجن إذا لم يجد دواءً بأسرع وقت، كل ما تمناه في تلك اللحظة لو أن والده لم يمت ويتركه، لم يشتق لوالده كما في هذه اللحظة.

نظر الملك إلى كبير حكمائه سائلاً: "أخبرني، لو أردنا أن نستشير العرافين وأن نصنع حجباً جديدة وكل ما يلزم لمنع الناس من الحسد! كم نحتاج من الوقت وكم نحتاج لتوزيعها على الناس؟ أرجوك أريد أجابات دقيقة، فليس هناك متسع من الوقت!"
- "
ما الذي تقوله، يا مولاي، لا نحتاج لأي وقت، كل ما علينا هو أن نطلب العون من الله أن يساعدنا، ورجالي سيقومون بالمهمة الباقية، فهم منتشرون في كل بقعة من بقاع هذا البلد، منابرنا تعلو سطوح المنازل، مطابعنا معدة بآلاف الكتب، أما العقول، فهي مهيأة لتعاطي هذا العلاج الذي اعتادوه منذ آلاف السنين، مولاي! كل ما نحتاجه هو أن تبارك لنا أعمالنا وتدعو لنا بالنجاح!"

لم تكن دهشة الملك من كبير حكمائه، لتخفى عن الجميع، لم يكن يعلم سر تمسك والده بهذا الحكيم، ولكن على ما يبدو أنه بدأ يكتشف سراً من أسراره الآن، ولكن لم تزل رغم ذلك فكرة العلماء تثير فضوله، فنظر إلى كبير العلماء الذي كانت تعلو وجهه نظرة يائسة والكثير من الرعب الذي يرافق أفكاره، التي كان يحاول جاهداً أن يصوغها بطريقة قد يقبل بها الملك. كانت التفاصيل كلها مرسومة في رأسه، ولكن كيف سيخبر الملك أنه لا يوجد علاج بهذه البساطة التي طرحها كبير الحكماء، هل يخبره أن العلاج يحتاج لهدم ومن ثم إعادة بناء! كيف سيفهم الملك أن الحل، سيستغرق أجيالاً وأجيالاً، وليس هناك من حبة دواء واحدة تكفي، كان يود أن يخبر الملك بكل بتلك التفاصيل، ولكنه لم يستطع الخروج من حلقة مقارنة حله بما طرحه كبير الحكماء، أحس بيأس كبير، أراد أن يتكلم ولكنه أحس بعجزه عن الكلام، وحدها كلمات الملك أخرجته من أفكاره التي غرق فيها،

- "
اسمعوا الآن" هكذا تكلم الملك بعد أن وقف عن الكرسي، مزهواً بنفسه وكأنه توصل إلى حل ما، ولكن سرعان ما أخرجهم من ترقبهم وأكمل كلامه: "يكفي الآن، لقد حان موعد الغداء، ولا أحب أن أدع زوجتي العزيزة تنتظرني كثيراً"، قالها وخرج مغادراً تلك القاعة التي دخلها في البداية!

No comments: